سورة آل عمران - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


لما ادّعت كل واحدة من طائفتي اليهود، والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، وأبان بأن الملة اليهودية، والملة النصرانية إنما كانتا من بعده. قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود، والنصارى أن التوراة، والإنجيل نزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب. انتهى. وفيه نظر، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة، وذكر شريعة موسى، والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدّمة، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة.
وقد اختلف في قدر المدّة التي بين إبراهيم وموسى، والمدّة التي بين موسى، وعيسى. قال القرطبي: يقال: كان بين إبراهيم، وموسى ألف سنة، وبين موسى، وعيسى ألفا سنة. وكذا في الكشاف. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: تتفكرون في دحوض حجتكم، وبطلان قولكم.
قوله: {تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} الأصل في ها أنتم: أأنتم أبدلت الهمزة الأولى هاء؛ لأنها أختها كذا قال أبو عمرو بن العلاء، والأخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرأ قنبل: {هَأَنْتُمْ} وقيل: الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها، أي: ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم، وفي {هؤلاء} لغتان المدّ، والقصر. والمراد بما لهم به علم: هو ما كان في التوراة، وإن خالفوا مقتضاه، وجادلوا فيه بالباطل، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه. وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ، كما في حديث: «من ترك المراء، ولو محقاً، فأنا ضمينه على الله يبيت في ربض الجنة» وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن لقوله تعالى: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ونحو ذلك، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة. قوله: {والله يَعْلَمُ} أي: كل شيء، فيدخل في ذلك ما حاججوا به.
وقد تقدّم تفسير الحنيف. قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس} أي: أحقهم به، وأخصهم للذين اتبعوا ملته، واقتدوا بدينه {وهذا النبى} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيماً له، وتشريفاً، وأولويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية {والذين ءامَنُواْ} من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فنزل فيهم: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ في إبراهيم} الآية.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية: {هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} يقول فيما شهدتم، ورأيتم، وعاينتم: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يقول فيما لم تشهدوا، ولم تروا، ولم تعاينوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدّي، في الآية قال: أما الذي لهم به علم، فما حرّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعذر من حاجّ بعلم، ولا يعذر من حاجّ بالجهل.
وأخرج ابن جرير، عنه عن الشعبي، في قوله: {مَا كَانَ إبراهيم} قال: أكذبهم الله، وأدحض حجتهم.
وأخرج أيضاً عن الربيع مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه.
وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدّثني ابن غنم؛ أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فذكر قصتهم معه، وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص إنهم يشتمون عيسى، وهي قصة مشهورة؛ ثم قال: فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالمدينة: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي خليل ربي، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس} الآية».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحكم بن ميناء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبيّ المتقون، فكونوا أنتم سبيل ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا تحملونها، فأصدّ عنكم بوجهي، ثم قرأ عليهم: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: كل مؤمن وليّ إبراهيم ممن مضى، وممن بقي.


الطائفة من أهل الكتاب هم: يهود بني النضير، وقريظة، وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم، وسيأتي. وقيل: هم جميع أهل الكتاب، فتكون {من} لبيان الجنس. وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه. والمراد بآيات الله: ما في كتبهم من دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} ما في كتبكم من ذلك، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم، أو المراد: كتم كل الآيات عناداً، وأنتم تعلمون أنها حق. ولبس الحق بالباطل: خلطه بما يتعمدونه من التحريف {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية.
قوله: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} هم رؤساؤهم، وأشرافهم، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة. ووجه النهار: أوّله، وسمي وجهاً؛ لأنه أحسنه قال:
وتُضِئ في وَجْهِ النَّهار مُنِيرةً *** كجُمَانَة البحرى سُلَّ نظامُها
وهو: منصوب على الظرف، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم، واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين، ومكن أقدامهم، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله، ولا تحركهم ريح المعاندين.
وقوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي: قال ذلك الرؤساء للسلفة لا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن قد أسلم، فأظهروا لهم ذلك خداعاً {وَجْهَ النهار واكفروا ءاخِرَهُ} ليفتتنوا، ويكون قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} على هذا متعلقاً بمحذوف، أي: فعلتم ذلك؛ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: يعني أن ما بكم من الحسد، والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم. وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} معطوف على {أن يؤتى} أي: لا تؤمنوا إيماناً صحيحاً، وتقرّوا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك، ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق.
وقوله: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} جملة اعتراضية.
وقال الأخفش: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم، فذهب إلى أنه معطوف. وقيل: المراد: لا تؤمنوا وجه النهار، وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم، أي: لمن دخل في الإسلام، وكان من أهل دينكم قبل إسلامه؛ لأن إسلام من كان منهم هو: الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة، وأسفاً، ويكون قوله: {أَن يؤتى} على هذا متعلقاً بمحذوف كالأوّل.
وقيل: إن قوله: {أَن يؤتى} متعلق بقوله: {لاَ تُؤْمِنُواْ} أي: لا تظهروا إيمانكم ب {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أي: أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم. وقيل: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فتكون على هذا {أن} وما بعدها في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره تصدّقون بذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى، وقد قرأ: {آن يؤتى} بالمدّ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد.
وقال الخليل: {أن} في موضع خفض، والخافض محذوف.
وقال ابن جريج: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى؛ وقيل: المعنى: لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تبع دينكم، لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ثم قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} أي: إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير (لا) كقوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا،
و{أو} في قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} بمعنى حتى، وكذلك قال الكسائي، وهي عند الأخفش عاطفة، كما تقدّم. وقيل: إن هدى الله بدل من الهدى، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
وقد قيل: إن هذه الآية أعظم آي: هذه السورة إشكالاً، وذلك صحيح. وقرأ الحسن: {يؤتى} بكسر التاء الفوقية. وقرأ سعيد بن جبير {إن يؤتى} بكسر الهمزة على أنها النافية. وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} قيل: هي النبوّة، وقيل: أعم منها، وهو ردّ عليهم ودفع لما قالوه، ودبروه.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سفيان قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب، فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصحّ حملها على النصارى ألبتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودّت إضلال المسلمين، وكذلك الطائفة القائلة: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار} هي: من اليهود خاصة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} قال: تشهدون أن نعت نبيّ الله محمد في كتابكم، ثم تكفرون به، وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل النبيّ الأمّي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع مثله.
وأخرجا أيضاً، عن السدي نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره.
وأخرجا عن الربيع في قوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} يقول: لم تخلطون اليهودية، والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام: {وَتَكْتُمُونَ الحق} يقول: تكتمون شأن محمد، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدّي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد، وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون، كما نصنع، فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم: {ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} إلى قوله: {والله واسع عَلِيمٌ} وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس في قوله: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ} الآية، قال: كانوا يكونون معهم أول النهار، ويجالسونهم، ويكلمونهم، فإذا أمسوا، وحضرت الصلاة كفروا به، وتركوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} قال: هذا قول بعضهم لبعض.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.
وأخرج أيضاً عن السدي نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} حسداً من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يتابعوا على دينهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك، وسعيد بن جبير: {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي؛ قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} يا أمة محمد: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} يقول اليهود: فعل الله بنا كذا، وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المنّ، والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبياً كنبيكم حسدتموه على ذلك {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} يقول: هذا الأمر الذي أنعم الله عليه {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} قال: قال بعضهم لبعض لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ل {يُحَاجُّوكُم} قال: ليخاصموكم به {عِندَ رَبّكُمْ} فتكون لهم حجة عليكم: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} قال: الإسلام {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} قال: القرآن، والإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} قال: النبوّة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: رحمته الإسلام يختص بها من يشاء.


هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين. والجار والمجرور في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} في محل رفع على الابتداء على ما مرّ في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} [البقرة: 8] وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله: {تَأْمَنْهُ} هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب، والأشهب العقيلي: {تيمنه} بكسر التاء الفوقية على لغة بكر، وتميم، ومثله قراءة من قرأ: {نستعين} [الفاتحة: 5] بكسر النون. وقرأ نافع، والكسائي: {يُؤَدّهِ} بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو، والأعمش، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء. قال النحاس: إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة، ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا، والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء.
وقال الفراء: مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون ضربته ضرباً شديداً، كما يسكنون ميم أنتم، وقمتم، وأنشد:
لما رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ *** مال إلى أرْطاة حِقْفٍ فاضَّطجَع
وقرأ أبو المنذر سلام، والزهري: {يؤده} بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة، وحمزة، ومجاهد: {يؤدهو} بواو في الإدراج، ومعنى الآية: أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدى أمانته، وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته، وإن كانت حقيرة، ومن كان أميناً في الكثير، فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل، فهو في الكثير خائن بالأولى. وقوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناء مفرغ، أي: لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لردّه، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: {لاَّ يُؤَدِّهِ}. والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب، أي: ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادّعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
{بلى} أي: بلى عليهم سبيل؛ لكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله: {بلى} إثبات لما نفوه من السبيل. قال الزجاج: تمّ الكلام بقوله: {بلى} ثم قال: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى} وهذه جملة مستأنفة، أي: من أوفى بعهده، واتّقى، فليس من الكاذبين. أو فإن الله يحبه، والضمير في قوله: {بِعَهْدِهِ} راجع إلى {من} أو إلى الله تعالى، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى {من} أي: فإن الله يحبه.
قوله: {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله} أي: يستبدلون، كما تقدّم تحقيقه غير مرة. وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأيمان: هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به، وينصرونه، وسيأتي بيان سبب نزول الآية {أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفة {لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة} أي: لا نصيب {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} بشيء أصلاً، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم، أو لا يكلمهم بما يسرهم {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} نظر رحمة، بل يسخط عليهم، ويعذبهم بذنوبهم، كما يفيده قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} قال: هذا من النصارى {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} قال: هذا من اليهود {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} قال: إلا ما طلبته، واتبعته.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ} قال: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل.
وأخرج ابن جرير، عن السديّ نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا، وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاة إلى البرّ، والفاجر».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك من بأس، قال: هذا، كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ} إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى} يقول: اتقى الشرك: {فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يقول الذين يتقون الشرك.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله، وهو عليه غضبان». فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك، كان بيني، وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا} إلى آخر الآية».
وقد روى: أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق: لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها. أخرجه البخاري، وغيره.
وقد روي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث، وامرئ القيس، ورجل من حضرموت. أخرجه النسائي، وغيره.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9